قد يرى الشخص إنساناً يجور في الحكم، فيسأل عن سبب جوره؟ والجواب على ذلك:
1- إنه جاهل، لا يعرف وجه الحق، ولهذا يجور.
2- إنه يتوخى بهذا الجور جلب نفع إلى نفسه، فإن المبطل يرشيه ـ مثلاً ـ ولهذا يجور.
3- إنه يريد بذلك دفع ضرر المبطل، إذ لو لم يحكم له ضرّه، فيجور فراراً عن الضرر.
4- إنه يميل نحو المبطل، فإنه قريب أو صديق.. له، ولهذا يجور.
5- إنه خبيث يحب الباطل، ويكره الحق.
هذه أجوبة تقع في السؤال عن علة الجور في الحكم، ومثل هذه الأجوبة تقع في السؤال عن علة الجور في سائر الشؤون.
فمن يقدم الرجل المستحق للتأخير، على العالم المستحق للتقديم، لابد وأن يكون لأحد هذه الأسباب.
ومن يحترم من لا يستحق الاحترام، ولا يحترم المستحق له، لا يكون إلا عن إحدى هذه العلل.
6- وهناك سبب سادس للجور: وهو العجز، فإن من يسبّ أحداً لأنه سلبه شيئاً، أو غلظ عليه.. يكون عاجزاً، وإلا استوفى الحق، بدون أن يجنح إلى باطل.
هذه هي أسباب الجور، وعدم العدل.
فهل يتوفر سبب من هذه الأسباب بالنسبة إلى الله، حتى يجور؟
كلا!
إنه تعالى ليس بجاهل، ولا يحتاج إلى جلب نفع، أو دفع ضرر، ولا يميل إلى أحد، بل كلٌّ عبيده، ولا قرابة ولا صداقة بينه وبين أحد، ولا يتطرق في ذاته في زيغ أو فساد، وليس بعاجز.
فلم يظلم؟
إن عدل الله واسع، وليس بمعناه الضيق الذي يتبادر إلى الأذهان.
هو عادل في بريته: فلا يحكم جوراً.
عادل في قضائه: فلا يُغنِي ولا يُفقر ولا يُشفي ولا يُمرض ولا يُميت ولا يُحيي ولا يُعزّ ولا يُذل ولا يعطي ولا يمنع ولا.. إلا بالعدل.
عادل في جزائه: فلا يُثيب ولا يُعاقب، ولا يُكرم ولا يُهين.. إلا بالعدل.
عادل في خلقه: فلم يخلق الشمس المضيئة ولا القمر البازغ ولا النجم الزاهر ولا البحر المائر ولا الأرض الفسيحة ولا النبات والحيوان والإنسان ولا.. إلا بالعدل.
عادل في أمره ونهيه: فلم يأمر بالواجب ولا يحبذ المندوب ولم ينه عن الحرام ولم يكره المكروه ولم يُبح الحلال.. إلا بالعدل.
إن الفكر الضيق قد لا يدرك وجه العدل في شيء، لكن الذنب من ضيق أفق التفكير لا من ضيق العدل، قد نرى الصبي يضيق ذرعاً بالدواء لجهله بمنافعه، فيسبّ الطبيب، لكن الذنب يعود إلى فكر الطفل لا إلى علاج الطبيب.
إنا لا نعرف وجه الصلاح في كثير من الأمور، لكن هل معنى ذلك أن ننكر الصلاح؟
كلا!
يكفي في الإذعان بالعدل، ما نعرف من العدل فيما علمناه!
إن الشخص إذا جهل وجه الصلاح فيما يعين له الطبيب، لا يحق له أن ينكر عدل الطبيب، والحال أنه يرى عدله فيما يعلم، فجهله بكثير من الأدوية، لا يبرّر رميه الطبيب بالظلم، لأنه أوقعه في مشقة العلاج!
يقول القرآن الحكيم: (ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام ـ أي بذي ظلم ـ للعبيد) آل عمران: 182.
وقال تعالى: (إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيما) النساء: 40.
وقال سبحانه: (ولا يظلمون فتيلاً) النساء: 49.
وقال عز وجل: (فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) التوبة: 70.
وقال تعالى: (وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون فأصابهم سيئات ما عملوا) النحل: 33-34.
وقال سبحانه: (وما الله يريد ظلماً للعباد) غافر: 31.
وقال تعالى: (اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب) غافر: 17.
وسئل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن التوحيد والعدل؟ فقال (عليه السلام): (التوحيد أن لا تتوهمه، والعدل أن لا تتهمه) (خصائص الأئمة: ص124).
وسئل الصادق (عليه السلام) عن العدل؟ فقال (عليه السلام): (أما العدل فأن لا تنسب إلى خالقك ما لامك عليه) (التوحيد: ص96، ح1، باب التوحيد والعدل).
وقال (عليه السلام): (... ولا أمره ـ أي العبد ـ بشيء، إلا وقد علم أن يستطيع فعله، لأنه ليس من صنعته الجور والعبث والظلم، وتكليف العباد ما لا يطيقون) (الاحتجاج: ص341).
وفي حديث: (.. بالعدل قامت السماوات).