وهنا يجب الإلفات إلى نقطة مهمة ما حصل في الاستعداد لمعركة بدر، حيثُ أخذ رسول اللّه (ص) برأي الحباب بن المنذر الذي سأله بعد أن نزل أدنى ماء من بدر، يا رسول اللّه، أرأيت هذا المنزل؟ أمنزلاً أنزلك اللّه ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال الحباب: يا رسول اللّه، فإنَّ هذا ليس بمنـزل، فانهض بالنّاس حتّى نأتي ماءً من القوم فننـزله ثُمَّ نفوّر ما وراءه من الآبار ثُمَّ نبني عليها حوضاً فنملأه ماءً، ثُمَّ نقاتل القوم فنشرب ولا يشربـون، فقال الرسول (ص): لقد أشرت بالرأي، ثُمَّ أمر بتنفيذ خطّته، فلم يجئ نصف الليل حتّى تحوّلوا كما رأى الحباب، وامتلكوا مواقع الماء".
وقضى المسلمون ليلاً هادئاً، وغمرت الثقة قلوبهم، وتساقط عليهم مطر خفيف، فلبدت أرض الصحراء بما يتيح للمسلمين حركة سريعة فوقها. وقد تحدّث القرآن الكريـم عن هـذه الأجواء بقوله تعالى: ]إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينـزّل عليكم من السّماء ماءً ليطهّركم به ويُذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبِّت به الأقدام[ (الأنفال:11).
وقد عبّر الرسول (ص) عن خطورة المواجهة مع قريش، وأنَّ الانتصار فيها سيحقّق للمسلمين مكاسب مهمة على كافّة الصعد، لا سيما على الصعيد الديني، ما يشكل ديمومة واستمراراً للدين الإسلامي، وقد جاء في دعائه: "اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعدها في الأرض"، مدللاً على انقياده المطلق للّه وأنَّ النصر منه سبحانه: "اللّهمّ أنجز لي ما وعدتني، اللّهمّ نصرك". وجاء في موقع آخر في دعائه: "اللّهمّ هذي قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذّب رسولك، اللّهمّ فنصرك الذي وعدتني".
خلافات في معسكر قريش
وعندما حلّ الفجر، كان الرسول (ص) قد صلّى بالمسلمين وراح ينظمهم صفوفاً ويحرضهم على القتال، وأرسل عمّاراً بن ياسر وابن مسعود، فطافا بالمشركين ثُمَّ رجعا إلى النبيّ (ص) يخبرانه بأنَّ القوم مذعورون فزعون، كما أنَّ الخلاف حصل بين قادة قريش، فرأى بعضهم التخلي عن القتال والعودة إلى مكة بعدما عرفوا نزول المسلمين قريباً منهم، وعلى رأس هؤلاء حكيم بن حزام وعتبة بن ربيعة، إلاَّ أنَّ أبا جهل أصرّ على الحرب واستثار عامر بن الحضرمي بتذكيره بمقتل أخيه عمرو في سرية عبد اللّه بن جحش الذي تفاعل مع هذه الاستثارة، ما دفع قريشاً بدورها لأن تستفز وتصرّ على القتال.
المواجهات
وفي صبيحة يوم الجمعة السابع عشر من رمضان، تقدم الأسود بن عبد الأسد المخزومي الذي عرف بشراسة الطبع وسوء الخلق، وقال: أعاهد اللّه لأشربن من حوضهم أو لأهدمنّه أو أموتن دونه، فتصدّى له حمزة بن عبد المطلب وتمكن من قتله في الحوض نفسه، وبرز عتبة بن ربيعة يحفّ به أخوه شيبة وابنه الوليد ودعا إلى المبارزة، فخرج إليه ثلاثة من فتيان الأنصار، ولكنَّ القرشيين دعوا النبيّ (ص) أن ينازلهم أكفاء من قومهم، فاستجاب الرسول(ص) لهذا التحدّي، وأمر عبيدة بن الحارث وحمزة وعليّاً(ع) بالتصدّي لهم.
وسرعان ما تمكن حمزة من قتل شيبة وفعل عليّ ذلك بغريمه الوليد، أمّا عبيدة فقد جرح غريمه وأصابه هو الآخر بجرح مميت، فانقض عليّ والحمزة عليه وأجهزا عليه وحملا عبيدة إلى معسكر المسلمين حيثُ توفي.
هذه الجولة أغاظت قريش، ولكنها في المقابل حفزت المسلمين على القتال، خاصة بعد أن أمطرت قريش معسكر المسلمين بوابل من السهام، وزحف الجيشان نحو بعضهما البعض، وأصدر الرسول أوامره إلى أصحابه ألاّ يهاجموا حتّى يأذن لهم، وأن يبعدوا مهاجميهم القرشيين بالنبال.
وعاد (ص) إلى العريش يراقب المعركة ويشرف عليها، وهو يدعو ربّه ويقول: "اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد".
ولما اتسع نطاق المعركة واقتربت من قمتها، كان المسلمون قد استنفدوا جهد أعدائهم، وألحقوا بهم خسائر فادحة، وخرج الرسول (ص) من موقعه يحثهم على القتال، وهو يقول: "والذي نفس محمَّد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً، مقبلاً غير مدبر، إلاَّ أدخله اللّه الجنّة" وراح الرسول (ص) يجالد المشركين بنفسه ويتقدّم الصفوف، حتّى أنَّ عليّاً(ع) قال عنه: "لما أن كان يوم بدر وحضر البأس، التقينا برسول اللّه، وكان أشدّ النّاس بأساً، وما كان منّا أحد أقرب إلى العدو منه".
انتصار المسلمين
ووهت صفوف المشركين تحت وطأة الضغط الذي مارسه المسلمون عليهم، تدفعهم إلى ذلك موجة عارمة من الإيمان ورغبة عميقة بالاستشهاد، تؤازرهم ثلة من الملائكة المقربين، وهو قوله تعالى: ]إذ يوحي ربُّك إلى الملائكة أنّي معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كلّ بنان* ذلك بأنَّهم شاقوا اللّه ورسوله ومن يشاقق اللّه ورسوله فإنَّ اللّه شديد العقاب* ذلكم فذوقوه وأنَّ للكافرين عذاب النّار[ (الأنفال:12ـ14).
وحاول أبو جهل أن استنهاض قومه وتلافي الهزيمة اللاحقة بهم، ودعاهم إلى الصمود فأحاطت به فلول المشركين، ولكن هذه الغابة من المشركين لـم تصمد أمام قوّة إيمان المسلمين ورباطة جأشهم، يعززهم الإيمان الراسخ، ووقع أبو جهل نفسه في مصيدة المؤمنين.
ولحقت بالمشركين هزيمةٌ ساحقة، وفرّوا لا يلوون على شيء، مخلِّفين وراءهم ما يربو على سبعين قتيلاً ومثلهم أسرى، أمّا خسائر المسلمين فكانت أربعة عشر شهيداً؛ ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار.
وفي ذلك قال سبحانه وتعالى: ]ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا اللّه لعلّكم تشكرون[ (آل عمران:123).
ولـم يلبث أن بعث الرسول(ص) عبد اللّه بن رواحة وزيد بن الحارثة إلى المدينة ليبشروا أهلها بانتصار المسلمين، وأقبل في أعقابهما بعد تسعة عشر يوماً من غيابه عنها مستصحباً معه أسرى المشركين بعد أن قسّم الغنائم على المسلمين على السواء، وعندما وصل إلى (الروحاء) قريباً من المدينة، لقيه المسلمون الذين لـم يخرجوا للقتال يهنئونه بما فتح اللّه عليه ومن معه من المسلمين... وما إن وصل إلى المدينة حتى فرّق الأسارى بين أصحابه.
التشريع للغنائم والأسرى
ومن اللافت أنَّ العديد من القضايا المتعلّقة بشؤون المجتمع، وخاصة في حالة الحرب، تدخّل الوحي بعد معركة بدر للتشريع لها وحلّها، ومنها مسألة الخلاف حول حيازة الغنائم، ومحاولة كلّ فريق الاستئثار بها، فأنزل اللّه سبحانه وتعالى: ]يسألونك عن الأنفال قل الأنفال للّه والرسول فاتقوا اللّه وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا اللّه ورسوله إن كنتم مؤمنين[(الأنفال:1) فقسّمها رسول اللّه بين المسلمين بعد أن أخرج خمسها كما نصّت الآية: ]واعلموا أنَّما غنمتم من شيء فأنَّ للّه خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم باللّه وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان واللّه على كلّ شيء قدير[(الأنفال:41).
كما تطرق الوحي لقضية الأسرى الذين وقعوا في قبضة المسلمين، وشرّع لها، وكان(ص) قد وزّعهم بين المسلمين وأمرهم أن يستوصوا بهم خيراً، فرأى البعض الإبقاء عليهم للانتفاع بثرواتهم، ورأى آخرون ضرورة الاقتصاص من مآثمهم السابقة. وجاء في بعض المرويات أنَّه فرض على من يحسن القراءة والكتابة أن يعلّمها لأطفال المسلمين في مقابل فدائه، وكانت الفدية تتراوح ما بين ألفي درهم وأربعة آلاف درهم، وفي ذلك قوله تعالى: {وما كان لنبي أن يكون له أسرى حتّى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا واللّه يريد الآخـرة واللّه عزيزٌ حكيم* لولا كتاب من اللّه سبق لمسّكم فيما أخذتـم عذاب عظيم[ (الأنفال:67ـ68).
وجاء في آية أخرى:]فكلوا مما غنمتم حلالاً طيباً واتقوا اللّه إنَّ اللّه غفورٌ رحيم* يا أيُّها النبيّ قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم اللّه في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم ويغفر لكم واللّه غفور رحيم* وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا اللّه من قبل فأمكن منهم واللّه عليم حكيم[ (الأنفال:69ـ71).
واختلف المفسرون في أنَّ الخطاب متّجه في هذه الآيات إلى النبيّ (ص) أو إلى المسلمين، والرأي الراجح أنَّ الخطاب في هذه الآيات موجّهٌ إلى المسلمين.
وفي ما يتعلّق بالأسرى، فإنَّ الآية الثانية التي وردت ليس فيها ما يدلّ على تحريـم الأسر، وتؤكد إباحة ما أخذوه من الغنائم التي تشمل فداء الأسرى.
تداعيات الانتصار
أحدث انتصار المسلمين في موقعة بدر صدمةً عنيفةً أفقدت قريش توازنها، وخلخلت قوّتها العسكرية، ما أدّى إلى حرمانها من تفوقها في الحجاز، وجعل أهل مكة ينطوون على أنفسهم، ويداوون جراحهم، ويستعيدون قواهم استعداداً لنيل ثأرهم.
وفي المقابل، أظهرت المعركة المسلمين كقوّة لا يُستهان بها، ما فتح عيون القبائل العربية على واقع جديد جعلها تأخذ احتياطاتها اللازمة بشأن العلاقة مع قريش للحفاظ على مصالحها، كما أنَّه وسّع من دائرة الاستهداف الإسلامي لقريش، حيثُ أضحى الساحل الحجازي برمته منطقةً غير آمنة للقوافل التجارية، ما اضطر قريش إلى تغيير طرق القوافل، وهذا ما دلّت عليه السرايا والغزوات التي أنفذها المسلمون بعد موقعة بدر.
أمّا على صعيد المدينة، فقد شكّلت أنباء انتصار المسلمين صدمة قوية لليهود المدعومين من المنافقين، فلم يصدقوا ما حصل، واتخذت العداوة للإسلام طريق الدسّ والنفاق والمخاتلة، فأسلم فريقٌ من المشركين واليهود ظاهراً وقلوبهم تغلي حقداً وكفراً، وعلى رأس هؤلاء عبد اللّه بن أبي. وبعبارة أخرى، كشفت ما كان يختزنه اليهود من حقدٍ وكراهية للمسلمين، فسخروا من هذا الانتصار، وحاولوا توهين قوّة المسلمين، ما جعل الأوضاع تتأزم بينهم وبين المسلمين، خاصة من جانب قبيلة بني القينقاع.
عوامل تحقق الانتصار
أمّا عن أسباب الانتصار في هذه الموقعة، فإنَّما تعود إلى عدّة عوامل:
ـ حكمة القيادة ووحدتها، حيث كان الرسول (ص) القائد العام للمسلمين، وكان المسلمون يعملون يداً واحدة، ينفذون أوامر الرسول (ص) بدقة متناهية، ومزودين بشجاعة نادرة ووحدة الهدف الرسالي، أمّا المشركون، فكانوا خاضعين لتعدّد القيادة، حيثُ لـم يكن عتبة بن ربيعة وأبو جهل على رأي واحد كما ظهر من سياق الأحداث، وليس لهم هدف واحد، لذلك طغت الأنانية والمصالح الشخصية على مصلحة قريش.
ـ الخطّة المحكمة التي أثبتها المسلمون في القتال، وهي خطّة مغايرة لما كان مألوفاً في الحروب السابقة، فقد اعتمدت في سبيل تحقيق الهدف تشكيلة لا تختلف بتاتاً عن الحرب الحديثة في الصحراء، إذ كان لهم مقدمة وقسم أكبر ومؤخرة، كما استفادوا من دوريات الاستطلاع وكشف قوّة العدد، كما أنَّ المسلمين قاتلوا بأسلوب الصفوف، في حين أنَّ المشركين قاتلوا على طريقة الكر والفر، وهو أسلوب لا يتلاءم والأوضاع الجديدة.
ـ الحماس الشديد للتضحية وحبّ التفاني في سبيل نصرة الإسلام وأهدافه الرسالية، وهذا ما كشف عنه المسلمون أثناء استشارتهم، كما أنَّه أعطى هامشاً للحرية يتحرّك أصحابه من خلاله، وهذا ما تبيّن في عدّة مواقع، في الوقت الذي كانت قريش قد جعلت غاية آمالها: أن تنحر الجزور وتطعم الطعام وتشرب الخمر وتعزف القيان.
ـ المعنويات العالية التي دخل فيها المسلمون المعركة وهم لا يكترثون لتفوّق قريش عدّة وعدداً.