جزاء المؤمنين المتقين والكافرين الظالمين {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ(15)} مثَّل بعده بالفارق الكبير بين الجنة والنار فقال {
مَثَلُ الجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} أي صفة الجنة الغريبة العجيبة الشأن، التي وعد الله بها عباده الأبرار وأعدَّها للمتقين الأخيار {
فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} أي فيها أنهار جاريات من ماءٍ غير متغير الرائحة،
قال ابن مسعود: أنهار الجنة تفجَّر من جبلٍ من مسكٍ {
وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ} أي وأنهار جاريات من حليبٍ في غاية البياض والحلاوة والدسامة، لم يحمض بطول المقام ولم يفسد كما تفسد ألبان الدنيا وفي حديث مرفوع (لم يخرج من ضروع الماشية) {
وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} أي وأنهار جاريات من خمرٍ لذيذة الطعم يلتذّ بها الشاربون لأنه {
لا فيها غولٌ ولا هم عنها يُنزفون} وإِنما قيَّدها بأنها لذة للشاربين، لأن الخمر كريهة الطعم في الدنيا لا يلتذ بها إِلاّ فاسد المزاج، وأما خمر الآخرة فهي طيبة الطعم والرائحة، يشربها أهل الجنة لمجرد الالتذاذ {
وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} أي وأنهارٌ جارياتٌ من عسل في غاية الصفاء وحسن اللون والريح، لم يخرج من بطون النحل،
قال أبو السعود: {
عَسَلٍ مُصَفًّى} أي لم يخالطه الشمع وفضلات النحل {
وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} أي ولهم في الجنة أنواعٌ متعددة من جميع أصناف الفواكه والثمار،
قال شيخ زاده في حاشيته على البيضاوي: وفي ذكر الثمرات بعد المشروب إشارة إِلى أنَّ مأكول أهل الجنة للَّذَّة لا للحاجة {
وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ} أي ولهم فوق ذلك النعيم الحسن نعيمٌ روحي وهو المغفرة من الله مع الرحمة والرضوان وفي الحديث (أُحلُّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً)
قال الصاوي: في الجنة ترفع عنهم التكاليف فيما يأكلونه ويشربونه، بخلاف الدنيا فإِن مأكلولها ومشروبها يترتب عليه الحساب والعقاب، ونعيم الآخرة لا حساب عليه ولا عقاب فيه {
كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} أي كمن هو مخلَّدٌ في الجحيم؟ والاستفهام للإِنكار أي لا يستوي من هو في ذلك النعيم المقيم، بمن هو خالد في الجحيم؟ {
وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} أي وسُقوا مكان تلك الأشربة ماءً حاراً شديد الغليان، فقطَّع أحشاءهم من فرط حرارته؟
قال المفسرون: بلغ الماء الغاية في الحرارة، إِذا دنا منهم شوى وجوههم، ووقعت فروة رؤوسهم، فإِذا شربوه قطَّع أمعاءهم وأخرجها من دبورهم.
بيان حال المنافقين والمهتدين {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ(16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ(17)فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ(18)فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ(19)} سبب النزول:نزول الآية (16): {
ومنهم من يستمع}: أخرج ابن المنذر عن ابن جريج قال: كان المؤمنون والمنافقون يجتمعون إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، فيستمع المؤمنون منهم ما يقول ويعونه، ويسمعه المنافقون فلا يعونه، فإذا خرجوا سألوا المؤمنين: ماذا قال آنفاً؟ فنزلت: {
ومنهم من يستمع إليك} الآية.
وروى مقاتل: أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب ويعيب المنافقين، فإذا خرجوا من المسجد سألوا عبد الله بن مسعود، استهزاء: ماذا قال محمد آنفاً؟ قال ابن عباس: وقد سُئلت فيمن سُئل.
ولما بيَّن تعالى حال الكافرين، ذكر حال المنافقين فقال: {
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} أي ومن هؤلاء المنافقين جماعة يستمعون إِلى حديثك يا محمد {
حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ} أي حتى إِذا خرجوا من مجلسك {
قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا} أي قالوا لعلماء الصحابة - كابن عباس وابن مسعود - ماذا قال محمدٌ قريباً في تلك الساعة؟
قال ابن كثير: أخبر تعالى عن المنافقين في بلادتهم وقلة فهمهم، حيث كانوا يجلسون إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه، فلا يفهمون منه شيئاً، فإِذا خرجوا من عنده قالوا لأهل العلم من الصحابة: ماذا قال محمد {
آنِفًا} أي الساعة، لا يعقلون ما قال ولا يكترثون به {
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} أي ختم على قلوبهم بالكفر {
وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ} أي ساروا وراء أهوائهم الباطلة {
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} أي وأما المؤمنون المتقون فقد زادهم الله هدى وألهمهم رشدهم،
قال الإِمام الفخر: لما بيَّن تعالى أن المنافق يستمع ولا ينتفع، ويستعيد ولا يستفيد، بيَّن أن حال المؤمن المهتدي بخلافه، فإِنه يستمع فيفهم، ويعمل بما يعلم، وفيه فائدة وهو قطع عذر المنافق، فإِنه لو قال ما فهمت كلامه لغموضه، يُردُّ عليه بأن المؤمن فهم واستنبط، فذلك لعماء القلوب لا لخفاء المطلوب {
فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} أي فهل ينتظرون إِلا قيام الساعة فجأةً فتبغتهم وهم سادرون غارون غافلون؟ {
فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} أي فقد جاءت أماراتها وعلاماتها، ومنها بعثة خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم {
فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} أي فمن أين لهم التذكر إِذا جاءتهم الساعة، حيث لا ينفع ندم ولا توبة؟ {
فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} أي فدم يا محمد على ما أنت عليه من العلم بوحدانية الله {
وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي اطلب من الله المغفرة لك وللمؤمنين والمؤمنات {
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} أي يعلم تصرفكم في الدنيا، ومصيركم في الآخرة، فأعدوا الزاد ليوم المعاد.
ردة فعل المنافقين والمؤمنين عند نزول آيات الجهاد {وَيَقُولُ الَّذِينَ ءامنوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ(20)طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ(21)فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ(22)أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ(23)} {
وَيَقُولُ الَّذِينَ ءامنوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} أي ويقول المؤمنون المخلصون شوقاً إِلى الجهاد وحرصاً على ثوابه: هلاَّ أنزلت سورة فيها الأمر بالجهاد {
فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} أي فإِذا أنزلت سورة صريحةٌ ظاهرة الدلالة على الأمر بالقتال،
قال القرطبي: {
مُحْكَمَة} أي لم تنسخ،
وقد قال قتادة: كل سورة ذكر فيها الجهاد فهي محكمة، وهي أشد القرآن على المنافقين {
رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي رأيت المنافقين الذين في قلوبهم شك ونفاق {
يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ} أي ينظرون إِليك يا محمد تشخص أبصارهم جبناً وهلعاً، كما ينظر من أصابته الغشية من حلول الموت {
فَأَوْلَى لَهُمْ} أي فويلٌ لهم،
قال ابن جزي: وهي كلمة معناها التهديد والدعاء عليهم كقوله تعالى {
أوْلى لكَ فأوْلى} {
طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} مبتدأٌ محذوف الخبر أي طاعةٌ لك يا محمد، وقولٌ جميلٌ طيبٌ خيرٌ لهم وأفضل وأحسن،
قال الرازي: وهو كلام مستأنف محذوف الخبر تقديره خيرٌ لهم أي أحسن وأمثل، وإِنما جاز الابتداء بالنكرة لأنها موصوفة ويدل عليه قوله {
وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} كأنه قال: طاعة مخلصة، وقولٌ معروفٌ خيرٌ لهم أو تكون أولى خير وأفضل وتكون خبراً مقدماً وطاعة مبتدأ مؤخر. {
فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ} أي فإِذا جدَّ الجِدُّ وفُرض القتال {
فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} أي فلو أخلصوا نياتهم وجاهدوا بصدقٍ ويقين لكان ذلك خيراً لهم من التقاعس والعصيان، والجملةُ جواب الشرط {
فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} أي فلعلَّكم إِن أعرضتم عن الإِسلام أن ترجعوا إِلى ما كنتم عليه في الجاهلية، من الإِفساد في الأرض بالمعاصي، وقطع الأرحام!!
قال قتادة: كيف رأيتم القوم حين تولّوا عن كتاب الله، ألم يسفكوا الدم الحرام، ويقطعوا الأرحام، ويعصوا الرحمن؟!
قال أبو حيان: يريد ما جرى من الفترة بعد زمان الرسول صلى الله عليه وسلم {
أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} أي طردهم وأبعدهم من رحمته {
فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} أي فأصمهم عن استماع الحق، وأعمى قلوبهم عن طريق الهدى فلا يهتدون إِلى سبيل الرشاد قال القرطبي : أخبر تعالى أن من فعل ذلك حقت عليه اللعنة وسلبه الانتفاع بسمعه وبصره، حتى لا ينقاد للحق وإِن سمعه، فجعله كالبهيمة التي لا تعقل.
حال المنافقين بعد ردتهم، وعند قبض أرواحهم والتذكير بحكمة الجهاد {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفالُهَا(24)إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ(25)ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ(26)فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ(27)ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ(28)أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ(29)وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ(30)وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ(31)} {
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ}؟ الاستفهام توبيخي أي أفلا يتفهمون القرآن ويتصفحونه ليروا ما فيه من المواعظ والزواجر، حتى لا يقعوا فيما وقعوا فيه من الموبقات!؟ {
أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} "أم" بمعنى "بل" وهو انتقالٌ من توبيخهم على عدم التدبر إِلى توبيخهم على ظلمة القلوب وقسوتها حتى لا تقبل التفكر والتدبر والمعنى: بل قلوبهم قاسية مظلمة كأنها مكبَّلة بالأقفال الحديدية فلا ينفذ إِليها نور ولا إيمان،
قال الرازي: إِن القلب خُلق للمعرفة فإِذا لم تكن فيه المعرفة فكأنه غير موجود، وهذا كما يقول القائل في الإِنسان المؤذي: هذا ليس بإِنسان هذا وحش، وهذا ليس بقلب هذا حجر {
إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} أي رجعوا إِلى الكفر بعد الإِيمان، وبعد أن وضح لهم طريق الهدى بالدلائل الظاهرة والمعجزات الواضحة {
الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ} أي الشيطان زيَّن لهم ذلك الأمر، وغرَّهم وخدعهم بالأمل، وطول الأجل {
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ} أي ذلك الإِضلال بسبب أنهم قالوا لليهود الذين كرهوا القرآن الذي نزَّله الله حسداً وبغياً {
سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ} أي سنطيعكم في بعض ما تأمروننا به كالقعود عن الجهاد، وتثبيط المسلمين عنه وغير ذلك {
وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} أي وهو جل وعلا يعلم خفاياهم، وما يبطنونه من الكيد والدسّ والتآمر على الإِسلام والمسلمين،
قال المفسرون: قال المنافقون لليهود ذلك سراً فأظهره الله تعالى وفضحهم {
فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} أي فكيف يكون حالهم حين تحضرهم ملائكة العذاب لقبض أرواحهم ومعهم مقامع من حديد يضربون بها وجوههم وظهورهم؟
قال القرطبي: والمعنى على التخويف والتهديد أي إِن تأخر عنهم العذاب فإِلى انقضاء العمر،
قال ابن عباس: لا يُتوفى أحد على معصية إلا تضرب الملائكة في وجهه وفي دبره {
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} أي ذلك العذاب بسبب أنهم سلكوا طريق النفاق وكرهوا ما يرضي الله من الإِيمان والجهاد وغيرهما من الطاعات {
فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} أي أبطل ما عملوه حال إِيمانهم من أعمال البر {
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ}؟ أي أيعتقد المنافقون الذين في قلوبهم شك ونفاق أن الله لن يكشف أمرهم لعباده المؤمنين؟ وأنه لن يظهر بغضهم وأحقادهم على الإِسلام والمسلمين؟ لابدَّ أن يفضحهم ويكشف أمرهم {
وَلَوْ نَشَاءُ لأرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} أي لو أردنا لأريناك يا محمد أشخاصهم فعرفتهم عياناً بعلامتهم ولكنَّ الله ستر عليهم إِبقاءً عليهم وعلى أقاربهم من المسلمين لعلهم يتوبون {
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} أي ولتعرفنَّ يا محمد المنافقين من فحوى كلامهم وأسلوبه، فيما يعرضونه بك من القول الذي ظاهره إِيمان وإِسلام وباطنه كفر ومسبَّة،
قال الكلبي: لم يتكلم بعد نزولها عند النبي صلى الله عليه وسلم منافقٌ إِلا عرفه {
وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} أي لا يخفىعليه شيء من أعمالكم فيجازيكم بحسب قصدكم، ففيه وعدٌ ووعيد {
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} أي ولنختبرنَّكم أيها الناسُ بالجهاد وغيره من التكاليف الشاقة حتى نعلم - علم ظهور - المجاهدين في سبيل الله، والصابرين على مشاقّ الجهاد {
وَنَبْلُوَا أَخْبَارَكُمْ} أي ونختبر أعمالكم حسنها وقبيحها،
قال في التسهيل: المراد بقوله {
حَتَّى نَعْلَمَ} أي نعلمه علماً ظاهراً في الوجود تقوم به الحجة عليكم، وقد علم الله الأشياء قبل كونها، ولكنه أراد إِقامة الحجة على عباده بما يصدر منهم، وكان الفضيل بن عياض إِذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهم لا تبتلنا فإِنك إِذا ابتليتنا فضحتنا وهتكت أستارنا.